يهل علينا شهر رمضان الكريم، من كل عام، حاملاً العديد من الذكريات؛ منها الجميل، ومنها ما دون ذلك، ولكنها، في النهاية ذكريات رمضانية، استعيدها ذكراها، بدءاً من طفولتي بمدينة بورسعيد، التي يشهد، حتى من هم من خارجها، أن أيام رمضان بها من أجمل أيام حياتهم.
تتميز بورسعيد بطقوسها المختلفة عن باقي مدن مصرنا الحبيبة؛ فلازلت أتذكر مدفع الإفطار، الذي يتوسط المدينة، على شاطئ البحر، الذي كنت أذهب، مع أصدقائي، لمتابعة إطلاق قذيفته، إيذاناً بموعد آذان المغرب، لنعود سريعاً إلى المنزل للإفطار، ثم مع زحف العمران ونقله إلى منطقة مطار الجميل، صرنا نتابعه من شرفات المنازل، قبل أن يتجمع معظم أهالي المدينة في مسجد العباسي، بمنتصف بورسعيد، أو جامع لطفي، بالحي الإفرنجي، لأداء صلاة التراويح.
وبعد صلاة التراويح، وحتى اقتراب موعد صلاة الفجر، تعج المدينة بكافة مظاهر الألفة والمرح، إما بحفلات السمسمية، على شواطئها، أو مسابقات الطمبولا، بجوائزها البسيطة، على مقاهيها، وما يتخللهم من تناول كافة أنواع الحلويات من الكنافة، والقطائف، وأصابع زينب، ولقمة القاضي، والهريسة، والتمرية، مع الاستمتاع بسبل المياه المعطر بمياه الورد، والمنتشرة في كافة أنحاء المدينة، والتي بدأت بالقلل القناوي، قبل أن تتطور، مع تغير نمط الحياة، لتوضع في خزانات بلاستيكية “كولمان”.
ومضت أيام الطفولة، وتعرفت على رمضان في ظروف مختلفة، ونحن نحارب فوق جبال اليمن، فتكونت ذكريات جديدة، قاسية، ابتعدنا فيه عن البلاد والأهل والأحباب، وحرمنا من آذان المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت، وفوازير رمضان بصوت الإعلامية آمال فهمي، ولم يعد لنا إلا سفوح وقمم جبال اليمن تحيطنا من كل جانب، ونحن نسترجع ذكريات أيام رمضان الجميلة في مصر المحروسة.
وعدنا من اليمن لنتلقى هزيمة 67، ولتبدأ، في أعقابها، حرب الاستنزاف، لمدة 6 سنوات، واجهنا خلالهم العدو الإسرائيلي، واعتدنا على سخافاته، ببدء الاشتباك، في شهر رمضان، عند حلول المغرب، فنظمنا أنفسنا، ليكون البعض جاهزاً بسلاحه وعتاده، للتصدي لأي مناوشات، لحين انتهاء البعض الآخر من الصلاة والإفطار، ثم نتبادل الأدوار والمواقع. كانت أيام كئيبة، لم نستمتع فيها بمظاهر الشهر المعظم، حتى جاءنا الفرج في العاشر من رمضان من عام الهجري 1393، الموافق السادس من أكتوبر من عام 1973، بعد استعدادات طويلة للمعركة وشوق كبير لتحرير الأرض.
وأتذكر قول الفريق محمد فوزي، رحمه الله، وزير الحربية، في فترة حرب الاستنزاف، أثناء تدريباتنا على الهجوم، واقتحام المانع المائي، والذي صادف، حينها، أول أيام عيد الفطر، إذ قال لنا، “متزعلوش أن مصر بتعيد النهاردة وإحنا بنتدرب … لكن عيدنا هيكون في سيناء يوم ما نحررها”، وصدق قوله، واحتفلنا بعيد الفطر بعد أن حررنا سيناء، في حرب العاشر من رمضان، وعبرنا قناة السويس، وحطمنا خط بارليف، والضباط والجنود صائمون، لم تثنيهم المعارك، والجهاد، الحق، في سبيل الله، عن أداء فريضة الصوم، رغم فتوى مفتي الديار المصرية بجواز الإفطار.
تلك الفتوى التي أبلغنا إياها الرئيس أنور السادات، يوم العاشر من رمضان، ونحن في مركز عمليات حرب أكتوبر، حين دخل علينا، يتبعه جنود يحملون الساندويتشات والعصائر ليبلغنا أن مفتي الجمهورية قد أصدر فتواه بجواز إفطار الضباط والجنود المشاركين في القتال لتحرير الأرض، وطلب إبلاغ جميع القوات على خط الجبهة، ورغم ذلك لم يذق أي منا الطعام، فزادنا كان الفرحة بتحقيق النصر.
وانتهت الحرب، وابتعثت للدراسة في كلية كمبرلي الملكية بإنجلترا، في عام 1975، بعد عشرون عاماً من انقطاع البعثات العسكرية إلى إنجلترا، منذ اشتراكها في العدوان الثلاثي على مصر. أنهيت دراستي هناك في عام كامل، واختارتني الكلية للتدريس بها، لمدة عام آخر، بعد موافقة القوات المسلحة المصرية، فمر علي رمضان هناك، خلال العامان، خالياً من أي مظاهر، مما اعتدنا عليه.
حتى أنني أذكر الصعوبة التي واجهتني لتنظيم مواعيد وجبات الإفطار والسحور، في ظل تزمت الإنجليز، وصرامتهم، فيما يخص المواعيد، والاستثناءات، وانتهى الأمر أن اتفقت مع إدارة الكلية على إعفائي من وجبتي الفطور والغذاء، على أن أتناول العشاء، مع دفعتي، في موعده المقرر واعتباره إفطار رمضان، أما وجبة السحور، والتي يكون مطعم الكلية مغلقاً حينها، فكنت أدبرها أثناء العشاء، واحتفظ بها في غرفتي لتناولها قبيل الفجر.
ومرت السنوات، وصرت محافظاً للأقصر، تلك المدينة التاريخية، العريقة، فتعرفت على عادات مختلفة لأهالي المدينة في شهر رمضان الكريم، منها حرصهم على تناول البط البلدي في أول أيام ذلك الشهر، وهي العادة التي طبقها علي طباخ الاستراحة لمدة سبعة أعوام. كما تعرفت على أمسياتهم، وشاركتهم فيها، إذ تنظم المدينة 25 احتفالية، في مختلف المراكز الثقافية بالأقصر، يدعى إليها 25 من كبار الكتاب في مصر، يعقبها احتفال ديني رائع، ينشد خلاله المداحون في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتختتم بتلاوة عطرة للقرآن الكريم، تمتد حتى صلاة الفجر، تشعر خلالها وكأنك انتقلت من العالم الحقيقي إلى عالم روحاني، تسوده السكينة.
أما أجمل أيام رمضان تلك التي أقضيها، اليوم، مع أسرتي، وخاصة أحفادي، بعد سنوات حرمت خلالها من الاستمتاع بهم، لارتباطي بمسئوليات عسكرية أو عامة، فأعمل جاهداً على تعويض ما فاتني منهم، بلقاء يومي على مائدة الإفطار لأحكي لهم عن ذكريات الطفولة والشباب، وأسمع منهم حكاياتهم وأخبارهم … وأتمتم “والله بعودة يا رمضان”.